الحرب الباردة والشرق الأوسط- خذلان سوفييتي أم حسابات استراتيجية؟

المؤلف: محمد مفتي09.21.2025
الحرب الباردة والشرق الأوسط- خذلان سوفييتي أم حسابات استراتيجية؟

عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، بزغت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (سابقاً) كقوتين محوريتين تهيمنان على الساحة العالمية، وتتنافسان بشدة على كسب ود الحلفاء في شتى أنحاء العالم، سعياً لفرض سيطرتيهما السياسية والاقتصادية. وخلال الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ظهر مصطلح "الحرب الباردة" ليجسد هذا الصراع المحتدم، والذي تمثل في سباق تسلح صناعي وعسكري محموم بين الدولتين، في محاولة حثيثة لإنتاج أحدث التقنيات العسكرية التي تمكن كلاً منهما من بسط نفوذها على الصعيد العالمي.

كان التنافس بين هذين القطبين يسير بخطى متسارعة، حتى بلغ ذروته في ما عُرف بـ"حرب النجوم"، حيث تطلعت كل قوة إلى الاستحواذ على الفضاء الخارجي، وذلك من خلال نشر أقمار التجسس التي تراقب بدقة كل ما يجري على سطح الأرض، بالإضافة إلى نشر الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، القادرة على حمل رؤوس نووية، والتي تستطيع إصابة أي دولة معادية في أي مكان.

أما على أرض الواقع، فقد اشتد التنافس على كسب أكبر عدد ممكن من الحلفاء، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط الحيوية، ولذلك سعت كل من الدولتين إلى تزويد حلفائها بأحدث التقنيات العسكرية المتطورة. فخسارة أي حليف كانت تعني اندفاعه لطلب الحماية من القطب الآخر، في مواجهة أي تهديد عسكري محتمل. وخلال منتصف القرن الماضي، حظيت بعض الدول العربية المحدودة بالدعم العسكري السوفييتي، ومن أبرزها مصر وسوريا والعراق.

إلا أنه خلال خمسينيات القرن الماضي، وتحديداً بعد حرب 1956، تجلى بوضوح أن الاتحاد السوفييتي لم يكن حريصاً على تقديم المساعدة الفعالة لحلفائه. فعندما اندلعت أزمة السويس، لم يتخذ الاتحاد السوفييتي موقفاً حازماً، وحتى عندما صدر الإنذار السوفييتي-الأمريكي المشترك للدول المعتدية على مصر بالانسحاب الفوري، كانت الولايات المتحدة (بقيادة الرئيس أيزنهاور) هي الطرف الأكثر جدية وإصراراً على إنهاء العدوان، وذلك مقارنة بالاتحاد السوفييتي نفسه.

تبنى الاتحاد السوفييتي استراتيجية تقوم على تجنب المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة، وذلك نتيجة لإنهكه اقتصادياً بسبب مساحته الجغرافية الشاسعة التي تفوق ضعف مساحة الولايات المتحدة، بالإضافة إلى أن السباق العسكري المحموم استنزف معظم موارده الاقتصادية المتاحة. لذلك، كان أقصى ما يقدمه لحلفائه هو بيع كميات محدودة من الأسلحة التي تكفي بالكاد للدفاع عن حدودهم، ولم يكن الاتحاد السوفييتي يفضل بيع أسلحته المتطورة، باستثناء الأجيال القديمة التي اكتظت بها مخازنه، خوفاً من وقوعها في يد الولايات المتحدة في حال خسارة أي معركة محتملة.

وعندما اندلعت حرب 1967، كان الموقف السوفييتي سلبياً إلى درجة الخذلان، حيث لم يقدم الاتحاد السوفييتي أي دعم عسكري ملموس لحلفائه أثناء الحرب، بل اكتفى بمساعيه السياسية الهادفة إلى وقف إطلاق النار، مع احتفاظ إسرائيل بالأراضي التي احتلتها. وبعد الحرب، كان الموقف السوفييتي من بيع الأسلحة للدول المتضررة حذراً للغاية، تجنباً للاصطدام المباشر بالولايات المتحدة، وذلك لإدراك الاتحاد السوفييتي بوضوح أن حرب العرب ليست موجهة ضد إسرائيل فحسب، بل ضد الولايات المتحدة أيضاً.

وعلى الرغم من النقص الحاد في الأسلحة لدى دول المواجهة العربية مع إسرائيل، تمكن العرب من بدء معركة تحرير الأرض في عام 1973. وقد تبنى الرئيس السادات استراتيجية حذرة في هذه الحرب، لأنه كان يعلم مسبقاً أن الحرب تتطلب أكثر بكثير مما يمتلكه من أسلحة. فالحرب كانت تستنزف بشكل يومي الآلة العسكرية المصرية، مما يعني الحاجة المستمرة لتعويض الخسائر الفادحة في المعدات والأفراد، وذلك في الوقت الذي أقامت فيه الولايات المتحدة جسراً جوياً على مدار الساعة لإمداد إسرائيل بأحدث وأفضل ما تنتجه مصانعها العسكرية.

تطلعت دول المواجهة إلى الحصول على دعم سوفييتي قوي خلال تلك الحرب، غير أنها لم تتلق الدعم الكافي الذي كانت تتوقعه، مما اضطرها لقبول قرار وقف إطلاق النار، على أن تبدأ مفاوضات جادة بهدف استعادة الأراضي المحتلة في عام 1967. وقد أدرك الرئيس السادات في ذلك الوقت أن الاتحاد السوفييتي شريك غير موثوق به، مما دفعه للتخلي عنه والتوجه إلى كامب ديفيد، آملاً في إيجاد شريك أفضل. وعندما غزت إسرائيل لبنان في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، كانت إسرائيل تدمر القدرات العسكرية السورية في لبنان وسوريا بشكل يومي، ولم يقدم الاتحاد السوفييتي حينذاك دعماً يذكر لسوريا.

تزخر الأحداث التاريخية بالشواهد التي تثبت أن روسيا -الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي- تسير على نفس النهج، فروسيا لا ترغب في المخاطرة والدخول في صراع مباشر مع الولايات المتحدة، كما أنها لا تستطيع تحمل تكلفة حرب باهظة ضد خصم عنيد كالولايات المتحدة. ونظراً لتلقي أوكرانيا دعماً غير محدود من إدارة الرئيس الأمريكي السابق بايدن، تبدو روسيا حذرة للغاية في حربها ضد أوكرانيا، لإدراكها أنها محاصرة من قبل دول حلف شمال الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة. ولعل كافة هذه الأحداث التاريخية والراهنة تمثل رسالة واضحة لبعض الأطراف التي لا تزال تراهن على دعم روسيا سياسياً أو عسكرياً في مواجهة النفوذ الأمريكي الداعم لإسرائيل، فالتاريخ يخبرنا بوضوح أن روسيا هي مجرد صديق مؤقت، لا يستطيع المضي قدماً مع حلفائه حتى النهاية، بل سرعان ما ينكفئ على نفسه ويترك حلفاءه ليواجهوا مصيرهم المحتوم بمفردهم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة